نص كلمة السيد عميد كلية العلوم الاسلامية المحترم الدكتور طلال فائق الكمالي في افتتاح مؤتمر "الاسلام حياة"

باسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، محمدٍ وآل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين.
أصحابُ السماحةِ والسعادةِ والمعالي والفضيلةِ مع حفظِ مقاماتِكم الرفيعةِ أٌحيِّيكم بتحيةِ الإسلامِ، وأُرحِّبُ بكم في مدينةِ الإباءِ، ومنبرِ سيدِ الشهداءِ عليه السلام، الذي صدحَ ويصدُح بالرفضِ للفسادِ والإفسادِ، وأُرحبُ بكم وأنتُم في أروقةِ كلية العلوم الإسلامية في جامعةِ وارثِ الأنبياءِ عليه السلام، التي تنظِّمُ اليومَ مؤتمرها السنوي السادس، إذ رفعَت هذه السنةِ شعارًا يُلامسُ كلَّ جوانبِ الحياةِ، ويقبعُ علّةً خلفَ كلِّ ألَمٍ أو حُزنٍ أو جوعٍ أو عطشٍ أو مرضٍ أو جهلٍ أو قهرٍ أو ظلمٍ أو تنكيل أو اضطهاد وغير ذلك مما ينافي إرادة اللـ تعالى التي بَعثَ من أجلِها الرُسلَ وشرّعَ الشرائعَ.
وأقدِّمُ امتناني وإكباري لراعي هذا المؤتمرِ في العتبةِ الحسينيةِ المقدسةِ متمثلةً بسماحةِ الشيخِ عبدِ المهدي الكربلائي المتولي الشرعي دامت بركاته، الأمينِ العامِ الأستاذِ حسن رشيد العبايجي دام توفيقه، وسائرِ المسؤولين، والسيدِ رئيسِ جامعةِ وارثِ الأنبياءِ الأستاذ الدكتور إبراهيم الحياوي والسادةِ أعضاءِ مجلسِ الجامعةِ المحترمين.
ولعلَّهُ لا يخفى أنَّ من مؤشراتِ نجاحِ المؤتمراتِ وإماراتِ تميُّزِها هو هذا الحضورُ النوعي الذي لا يكونُ كما يكونُهُ اليومَ....... وكذلك الرعايةُ الفائقةُ التي تنبثقُ عن وعي الجهةِ الراعيةِ بأهميةِ هذا الحِراكِ الفكري، والتواصلِ المعرفي، الكاشفِ عن منابعِ الخللِ، وموائلِ الزللِ.
أيها الحضورُ الكريمُ: نحنُ نجتمع اليومَ لنستظهرَ تمظهرًا من تمظهراتِ عنوانٍ أطلقناهُ منذُ سنواتٍ خلتْ، عنوانٍ لن تجدَ لهُ عِوجًا، (الإسلامُ حياةٌ) هذا العنوان الذي انبثقتْ عنهُ جملةُ شعاراتٍ، انتهتْ جميعها إلى حقيقةٍ كونيةٍ هي أنْ لا سبيلَ للإنسانيةِ، إنْ كانتْ تَنشُد العيشَ الكريمَ، إلا بالعودةُ إلى فطرةِ اللـ التي فطرَ الناسَ عليها التي تناغم العقل بالفكر النير المستقيم، فيا أحبتي وأعزتي.... لقد ولدَ هذا المؤتمر يافعًا متألقًا من أولِ يومٍ، متساميًا بهمَّة الفتوَّة، يحملُ تطلعات يَتوق إليها أحرار الإنسانية من عنواناتٍ يضحِّي من أجلها المصلحون والمفكرون والساعون إلى تحقيق الخير والسلام والصلاح، كلُّ ذلك لا أنَّ القائمينَ عليهِ والراعينَ لهُ على درجةٍ من الوعي والمسؤوليةِ فحسب، بل لأنَّ فيُوضاتَ الإسلامِ ونفحاتهِ ومن أفكارٍ ومفاهيمٍ وسننٍ وقيمٍ سماوية، انساقت مع الفطرةِ البشرية، وتسالمَ العقلُ السليمُ عليها بالرضا والقبولِ، لإطلاقِها نسبةً إلى المطلقِ جلَّ وعلا.
أيُّها السادةُ المؤتمرون: ما انتُخب عنوانُ (مكافحةُ الفسادِ: فرصٌ وتحدياتٍ) إلا ليُستَرسَل ذلك الفيضُ الهادرُ من المفاهيمِ النابضةِ بالحياةِ، الداعيةِ إلى النجاةِ المعبأةِ بالجمالِ المتصفة برفعة الكمالِ من حبٍ وعدلٍ وسلامٍ وإخاءٍ وفضلٍ وإحسانٍ، نعم انتُخبَ هذا العنوان بما يتضمنه من أهميةِ موضوعه، والداعي من وراءِ إقامته، وجوهر مضامين كُبروياته، ومباني رفعةِ مفرداته، وقِوام شأنِ تطلعاتِه، وسُمو كمال أفكاره؛ ليلفتَ عنايةَ المفكرِ وصاحبِ القرارِ، والمؤثرِ إلى خطورةِ هذا الداءِ الخفي، الذي ينخرُ في جسدِ الأمةِ على نحو صامتٍ، ويفتكُ بأساطينِ بِنائها الفكري والديني والاجتماعي والاقتصادي حتى السياسي، ليحيلها جثةً هامدةً تنهَشَها الكواسرُ والجوارحِ، أيادي المتلبسين بجلباب الخداع والتوهين والتزييف وخلط الحقائق ومحاربة الحق وأهله، فلا يخفى على سيادتِكم سادتي الحضور الأكارمِ أنَّ الوقوفَ بوجه آفة الفسادِ والإفساد، هو وقوفٌ بوجه التخلفِ، والخلود إلى الأرض، وضياع المستقبل، وهي علامة غياب الرشد، وبالتبع انتشالٌ للإنسان وبقيةِ جنسهِ من مستقبلٍ مريرٍ، لا تُطاق مرارتُهُ، ولا تُقوى لذعةٌ تذوقُهُ، ونتنِ مائدتُه، كلُ ذلكَ لأنَّ الإنسانَ الفاسد هو منْ غرسَ قدميهِ في وحلٍ آسنٍ، بل غِاصَ (فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) فمن كان بهذا الحال من دون أنْ يلتفتَ إلى نفسه، وما يُحيطً به من ظلماتٍ ورعدٍ وبرقٍ..... (فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) وسيبقى قدر (كرةَ ثلجِ الفسادِ) التي تتدحرج وتكبر فتكبر فتُسحِقُ كلَّ مَن أمامَها من بشرٍ وشجرٍ ومدر.

فبالاتِّكاءِ ذلك نجد المرجعيةِ الدينية العليا قد أدركتِ خطورة هذه الآفةِ ودعت إلى مكافحتها، والسعي وراءَ العمليةِ الإصلاحيةِ، إذ تعالى صوتُها مرارًا وتكرارًا، فقد بيَّنتْ خطورةَ هذا الملفِ على النُظمِ الاجتماعيةِ المختلفةِ، حتى صرَّحتْ بأنَّ المعركةَ ضدَ الفسادِ لا تقلُ أهميةً عن معركةِ الإرهابِ، وأكدتْ أيضًا على تفعيلِ سلطةِ الدولةِ وتطبيقِ القانونِ، ومحاسبةِ الفاسدينَ والتحذيرِ من حمايتِهم، كان ذلك بما يزيد على عشرين خطبةً، أبرزُها خُطبةُ
20 آيار عام 2016م، وخُطبةُ 26/ آب من العامِ نفسِهِ، وخُطبةُ 27 تموز عام 2018م، وخطبةُ تشرينَ الأول 2019م ، وغيرُها من الخُطبِ التي أكدتْ ضرورةَ مكافحةِ الفسادِ بالتصريحِ تارة، وبالضمنِ تارةً أخرى، حتى انتهت بالقولِ: (كفى، كفى..... فقد بُحت أصُواتنا).
سادتي الأحبةُ، إنَّ الذي يُخشى منه تفاقمُ الفسادِ حين يسعى المفسدون إلى إلباسِهِ لباسًا شرعيًا زائفًا، فيكونُ المنكرُ معروفًا والمعروفُ منكرًا، وحينَ يكونُ ظاهرةً غيرَ مستقبحةٍ، والحقُ أنهم: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) فأنَّ إمضاءه والتعايش معه يجرُّ إلى ويلاتِ ضياعِ الشخصيَّةِ، وفقدان الهويَّةِ، واستعبادِ الرعيَّةِ، وتسلطِ الوصوليةِ، وسرقةِ مالِ العبادِ وبيعِ الوطنِ بلا هواد.
سادتي الحضورُ الأفاضل: إنَّ مؤتمرنا اليوم بعنوانِهِ المُقَرُ (مكافحةُ الفسادِ: فُرصٌ وتحدياتٍ) يُمثلُ تظاهرةً نُخبويةً تنشرُ فوقَ رؤوسِها أوراقًا بحثيةٍ، تؤشرُ عِللًا حياتيةً، وتقترحُ لها طرائقَ علاجيةً، تستندُ إلى البحثِ العلمي والإجراءِ المنهجي؛ لتحكي بها مخاطرَ هذهِ الآفةِ وتبعياتِها عِبرَ تحديدَ مفهومِ الفسادِ، وصياغة مجموعةَ آلياتٍ تتوافرُ فيها مُقدماتُ مكافحتهِ من جهة، والوقوفُ أمامَ تحدياتهِ من جهةٍ أخرى، فقد وصلَ للَجنةِ العلميةِ سبعةٌ وتسعون بحثًا؛ ولأنَّ الحدَّ الأدنى لقبول البحث للمشاركةِ في المؤتمرِ هو السبعون، فقد قُبلَ منها أربعةٌ وسبعون بحثًا فقط، كان جُلُّها من العراقِ فضلًا على سوريا ولبنانَ، ومصرَ والبحرينِ وإيرانَ، والأردنِ والسودانِ، إذ لا يخفى عليكم سادتي الحضور أنَّ الدراساتِ والبحوثَ ارتقت إلى تقديمِ رؤيةٍ متكاملةٍ ستُرفع إلى ذوي الشأنِ والمسؤولين، والتشكيلات ذاتِ العلاقة مع توصياتٍ نأملُ أنْ تكونَ مرجعًا لهم في مكافحةِ الفسادِ ووضع الطرائق الهادفة والمُتْقَنةِ لاجتثاثه، كلُّ ذلكَ مرهونٌ بتحملِّ المسؤوليةِ الشرعيةِ، والإنسانيةِ والوطنيةِ، والرغبةِ الحقيقيةِ في مكافحةِ الفسادِ وتعزيزِ الإصلاحِ، وتبني المشروعِ بجدٍ واجتهادٍ، وخَلقِ إرادةٍ حرَّةٍ لترجمةِ هذه الرؤيةِ من النظريةِ إلى التطبيقِ.
سادتي الحضورُ الافاضل: إنَّ تواجَدَكُمُ تحتَ هذه المظلةِ العلميةِ هو تَبنٍ لموضوعِ المؤتمرِ، وهي مسؤوليةٌ تُناطُ بِكم فضلًا على مسؤولياتِكم الأُخرَ، أسألُ اللـَ تعالى أنْ تكونَ توصياتُ المؤتمرِ بابًا من أبوابِ الإصلاحِ والصلاح، ونافذةً لمستقبلٍ زاهرٍ، وأنْ يأخذَ بأيدينا وأيديَكُم إلى برِّ الأمنِ والأمانِ، وأنْ يُصلحَ حالنَا من حالٍ إلى حال.
أكرِّر كلمات العِرفانِ والشكرِ والاحترام لحضورِ السادةِ الضيوفِ الأكارمِ، وتفاعلِ الباحثينَ الأفاضل، والشكرُ موصولٌ أيضًا للجهات الساندة، ولجانِ المؤتمرِ التي جاهدت واجتهدت بصدقٍ ليكونَ المؤتمر بهذا الشكلِ الذي يَليقُ بمكانِ ومكين المولى (ع) ولا يفوتُني أنْ أشكرَ الأحبةُ الإعلامينَ، وتشكيلاتِ العتبةِ الحسينيةِ المقدسةِ وجامعةِ وارثِ الأنبياءِ لما قدَّموه من دعمٍ، فدامَ عزكُم جميعًا، وأبقاكم ذخرًا في إقامةِ هذه المشاريعَ خدمةً للدينِ والإنسانِ والوطن.
وقبل أنْ أُسدُلَ الستارَ على كلمتي أودٌّ ألا أسدُلَ الستار َعلى ذكرى فقيدٍ كبيرٍ، وعالمٍ نحريرٍ، وأخٍ عزيزٍ، كانَ من المفروضِ أنْ يجولَ في هذه القاعةِ بصولةِ حجةِ كلماتهِ، ووقِار حضورِه، ودماثةِ أخلاقِه، وطيبِ قلبه، وصفاءِ نفسه، وتعبيرِ ابتسامتِه، إنهُ العلامة سماحة السيد محمد علي بحر العلوم رحمهُ الله.
أقول قولي هذا سائلًا المولى عزَّ وجلَّ الرحمة لنا ولكم وللفقيد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.